اللغة العربية في إسرائيل
بقلم: فاروق جويدة
9/2/2010
في الأسبوع الماضي أعلنت وزارة التربية والتعليم في إسرائيل أنها قررت تعليم اللغة العربية في جميع المدارس
ابتداء من الصف الخامس الابتدائي اعتبارا من العام الدراسي القادم وقررت زيادة عدد مدرسي اللغة العربية لسد حاجة المدارس حيث يوجد في إسرائيل1000 مدرس لغة عربية من اليهود وتسعي هذه الخطة في تعليم اللغة العربية إلي مد جسور التواصل الثقافي مع دول المنطقة..
توقفت كثيرا عند هذا الخبر الذي حملته وكالات الأنباء ووسائل الإعلام ودار في رأسي هذا السؤال.. ما الذي يدفع المؤسسات التعليمية في إسرائيل إلي اتخاذ مثل هذا القرار وماذا يحمل من مؤشرات للمستقبل البعيد والقريب.. ولماذا يدرس الأطفال في إسرائيل اللغة العربية بينما يهرب منها أبناؤها الضائعين ما بين سراديب الأمية والمدارس الأجنبية والمسلسلات التافهة في العالم العربي.. لا أعتقد أن المؤسسات التعليمية في إسرائيل اتخذت مثل هذا القرار حبا في اللغة العربية أو تعاطفـا مع شعوبها ولكنها الأهداف والأدوار والمصالح والبحث عن جوانب القوة في مستقبل الصراع بين دول المنطقة..
منذ شهور قليلة كنت قد كتبت مقالا تساءلت فيه هل يبقي الخليج عربيا.. وطرحت فيه أزمة اللغة العربية في دول الخليج أمام التعليم الأجنبي والأجيال الجديدة التي لا تعرف لغتها.. وقد فوجئت يومها بأحد أساتذة كلية دار العلوم يبعث إلي برسالة يطرح فيها هذا السؤال أنت تتساءل عن دول الخليج.. وهل هناك ما يضمن أن تبقي مصر عربية أمام هذا الإهمال المخيف للغة العربية في مدارسنا ووسائل إعلامنا.. هناك أجيال كاملة في المدارس الأجنبية في مصر الآن لا تعرف شيئـا عن اللغة العربية..
دارت في رأسي هذه الأفكار وأنا أتساءل ما الذي جعل إسرائيل تقرر تعليم اللغة العربية في مدارسها ابتداء من المرحلة الابتدائية..
منذ سنوات بعيدة وأنا أصرخ في البرية ولا يسمعني أحد وأقول ان هناك مخاطر كثيرة تهدد الدور الثقافي المصري في العالم العربي وان هناك أطرافا كثيرة في الخارج والداخل تسعي لتهميش هذا الدور..
أن وراء القرار الإسرائيلي أهداف ثقافية وسياسية وتاريخية لا يمكن لنا أن نتجاهلها.. ورغم أن القضية تمس العالم العربي كله بمؤسساته التعليمية والثقافية والفكرية إلا أنني رأيت أن أتوقف عند قضية اللغة العربية في مصر لأننا جميعا ندرك أن دور مصر الثقافي كان دورا مصريا عربيا إسلاميا علي الأقل في القرنين الأخيرين وربما قبل ذلك بكثير..
هناك شواهد كثيرة لا أريد أن أكررها تؤكد أن دور مصر الثقافي عربيا وإسلاميا قد تراجع وان أخطر مظاهر هذا التراجع هو أزمة اللغة العربية لأن مصر بجامعاتها وازهرها وفنونها وآدابها ومثقفيها كانت القلعة العتيقة التي صانت وحافظت علي اللغة العربية..
هنا يمكن ان نتوقف عند بعض الشواهد التي ينبغي أن نقرأها قراءة صحيحة في ظل القرار الإسرائيلي بتدريس اللغة العربية..
في الوقت الذي اتخذت فيه المؤسسات التعليمية الإسرائيلية هذا القرار نجد التعليم المصري يتجاهل تماما اللغة العربية ويسقطها من قائمة الأولويات أمام التوسع الرهيب في إنشاء المدارس والجامعات الأجنبية ومعظمها لا يقوم بتدريس اللغة العربية لأن كل دولة تفرض برامجها التعليمية بما فيها اللغة.. لدينا مدارس أمريكية وإنجليزية وكندية تعتبر اللغة الإنجليزية هي الأساس ولدينا مدارس فرنسية تعتبر اللغة الفرنسية هي الأساس ولدينا مدارس ألمانية تعتبر اللغة الألمانية هي الأساس ولن يكون غريبا أن نجد مدارس صينية وهندية ويابانيه في مصر قريبا..
ليس هناك اعتراض علي وجود هذه المدارس وإن كانت قد حولت التعليم في مصر إلي كيان هولامي بلا ملامح وبلا جذور وبلا هوية..
ومن هنا سنجد أمامنا أجيالا لا تعرف لغتها ولا تعرف شيئـا عن تاريخها أو جذورها وبعد ذلك نتباكي علي شيء يسمي الانتماء في ظل هذا الهجوم الشرس من المدارس والجامعات الأجنبية كان غياب دور الأزهر وتراجعه وهو أهم حصون اللغة العربية واختفاء أسماء الجامعات المصرية من قوائم الجامعات المتميزة علي مستوي العالم..
علي الجانب الثقافي نحن أمام مشروع ثقافي مشوش لا يدرك المسئولون عنه الهدف الحقيقي للثقافة وما تمثله من أهمية في بناء الفرد والمجتمع نحن أمام شعارات ثقافية لا علاقة لها ببناء الشخصية وأمام تلال من المنشآت الخرسانية التي حملت اسم الثقافة..
وأمام مهرجانات واحتفالات ومناسبات أبعد ما تكون عن الثقافة الحقيقية التي تحمي جذور المجتمع وثوابته لنا أن نتصور كيف تراجع دورنا الثقافي ولماذا تراجع..
ومع اختلال منظومة الثقافة والتعليم وحالة التشويش التي أصابت العقل والدور المصري نجد أيضا اختلال المنظومة الإعلامية بكل جوانبها في الرسالة والدور والمسئولية أن أخطر ما تعرض له العقل المصري هو فساد المنظومة الثقافية في التعليم والإعلام والثقافة.. وكان هذا هو السبب الرئيسي في تراجع دور مصر الثقافي في العالم العربي ولعل هذا ما يفتح الآن الباب أمام أدوار جديدة لأطراف أخري من بينها إسرائيل..
هنا يبدو أمامي أكثر من سؤال..
* أين السينما المصرية التي تم بيعها لأطراف أخري عربية وأجنبية وما هو مصيرها في النهاية.. وما الذي يجعل الملياردير اليهودي روبرت مردوخ يدخل شريكـا في شركة روتانا التي تحتكر الآن الجزء الأكبر من السينما المصرية.. كلنا يعلم أن الفيلم المصري كان من أهم الجوانب التي قام عليها دور مصر الثقافي ومنه انتشرت اللهجة المصرية وسادت في ربوع العالم العربي..
* من بين القضايا التي تحقق فيها النيابة الآن بيع ذاكرة الغناء المصري إلي نفس المؤسسة التي احتكرت السينما المصرية وهي في طريقها أيضا إلي مؤسسة مردوخ سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة..
* تحتفظ إسرائيل الآن بمكتبة موسيقية ضخمة لا أحد يعلم عنها شيئـا وهناك أفلام مصرية لا توجد منها نسخا في مصر ومنها أحد أفلام الموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب وتوجد نسخته الأصلية في إسرائيل..
لقد جمعت إسرائيل طوال خمسين عاما الجزء الأكبر من تراث مصر الغنائي وفي المكتبة الإذاعية الإسرائيلية الآن آلاف التسجيلات النادرة لكتابنا ومفكرينا وفنانينا ولا أحد يعلم كيف حصلت إسرائيل علي هذه التسجيلات وكيف وصلت إليها.. لقد تم نسخ كل تراثنا الموسيقي والغنائي من مصادره الأصلية وتم بيعه في الخارج..
* قامت إسرائيل في السنوات الأخيرة من خلال أنصارها ومريديها في العواصم العربية بجميع أعداد هائلة من الوثائق التاريخية التي تتناول تاريخ فلسطين في مختلف العصور خاصة ما يتعلق بمدينة القدس والمناطق التاريخية الأخري وكلنا يعلم ما هو الهدف من ذلك تاريخيا وسياسيا..
وبعد أن قررت إسرائيل تدريس اللغة العربية في كل مدارسها من المرحلة الابتدائية نستطيع الآن أن نفهم لماذا اشترت إسرائيل كل هذه الأعمال ولماذا حرصت علي إنشاء مكتبة تراثية في جميع الفنون العربية.. ولماذا دفعت بالمستثمر اليهودي روبرت مردوخ لكي يدخل سوق الفضائيات العربية ويحاول شراء تاريخ السينما والغناء في مصر..
هنا أيضا نستطيع أن نتفهم حالة الصمت التي أصابت المسئولين عن الثقافة والإعلام والتعليم في مصر حين تم بيع تراثنا كاملا وحين أهملنا اللغة العربية في مدارسنا وجامعاتنا وحين فتحنا الابواب لهذه التوليفة الغريبة من التعليم الأجنبي بكل مستوياته في مصر..
نستطيع الآن أن نفهم لماذا انسحبت مصر ثقافيا وتخلت عن دورها العربي ولماذا فسدت منظومة التعليم الحكومي وتراجع دور الجامعات المصرية وما هي أسباب هذا المسلسل الطويل في تسطيح العقل المصري وتخريب ثوابته ودوره ومواقفه..
وقد يقول البعض وماذا ستفعل إسرائيل ثقافيا وما هو الدور الذي تستطيع القيام به وهي لا تملك الإمكانيات وغير مؤهلة لكي ترث هذا الدور..
كلنا يعلم أن الثقافة تحولت إلي نشاط استثماري وتجاري وان من يمتلك المال هو الذي يسيطر الآن علي الساحة الثقافية ومن يتابع تجارة المسلسلات وما يدفعه المنتجون فيها لابد وأن يتساءل من أين كل هذه الأموال ومن الذي يقف وراء كل هذه التفاهات وكيف تحولت الثقافة إلي تجارة والفن إلي بوتيكات والإعلام إلي صفقات والتعليم إلي مضاربات ومن هنا يمكن أن ندرك الأسباب الحقيقية أمام انهيار هذه المنظومة وتشوية رسالتها..
أن ما حدث للثقافة المصرية في السنوات الأخيرة يؤكد أن ذلك كله كان تمهيدا لما تقوم به إسرائيل الآن وما تحلم به..
أن المشروع الصهيوني ليس فقط مشروعا استيطانيا اغتصب أرض فلسطين ولكنه مثل الاخطبوط له أكثر من ذراع.. هناك الصناعة الإسرائيلية التي ترصد من بعيد الأسواق العربية وسوف تسعي في اللحظة المناسبة للانقضاض عليها.. وهناك الاستثمار الثقافي والفكري وسوف ترصد له المؤسسات الصهيونية آلاف الملايين خاصة أن الكل يبيع والأسواق والأيادي ممتدة ومفتوحة.. وهناك القدرات العسكرية وما تمثله من مظاهر التهديد..
نخطيء إذا تصورنا أن إسرائيل لا تعد نفسها لكي ترث ما تستطيع الحصول عليه من الدور المصري في العالم العربي وقد أعدت نفسها لذلك..
في ظل المنظومة الثلاثية التي فقدت ثوابتها ودورها وتأثيرها في مصر وهي التعليم والثقافة والإعلام لم يكن غريبا أن تقرر إسرائيل تعليم اللغة العربية لأطفال المدارس الابتدائية كبداية انطلاق نحو دور ثقافي يراه البعض بعيدا ولكن كل الشواهد تؤكد أنه قريب وقريب جدا..
أريد تفسيرا لما يحدث.. انهيار كامل للغة العربية في بلادها وبين مواطنيها وفي مدارس أطفالها في حين تشهد برامج التعليم في إسرائيل كل هذا الاهتمام باللغة العربية لا يمكن أن يأتي ذلك بالصدفة لأن كل شيء عندنا يقوم علي العشوائية والارتجال وكل شيء في إسرائيل له حسابات وأهداف ومصالح فهل وصلتنا الرسالة..