لنسب النبي ثلاثة أجزاء : جزء اتفق على صحته أهل السير وهو إلى عدنان وجزء
اختلفوا فيه مابين متوقف فيه وقائل به ، وهو ما فوق عدنان إلى إبراهيم عليه السلام ، وجزء لا نشك أن فيه
أموراً غير صحيحة ، وهو ما فوق إبراهيم إلى آدم عليهما السلام ، وهاك تفصيل تلك الأجزاء الثلاثة :
الجزء الأول
محمد بن عبد الله بن عبد المطلب _ واسمه شيبة _ بن هاشم _ واسمه عمرو_ بن عبد مناف _ واسمه المغيرة _ بن قصي _ واسمه زيد_ بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر _ وهو الملقب بقريش وإليه تنتسب القبيلة _ بن مالك بن النضر _ واسمه قيس _ بن كنانة بن خزيمة بن مدركة _ واسمه عامر_ بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان .
الجزء الثاني
ما فوق عدنان وعدنان هو ابن أد بن هميسع بن سلامان بن عوص بن بوز بن قموال بن أبي عوام بن ناشد بن حزا بن بلداس بن يدلاف بن طابخ بن جاحم بن ناحش بن ماخي بن عيض بن عبقر بن عبيد بن الدعا بن حمدان بن سنبر بن يثربي بن يحزن بن يلحن بن أرعوي بن عيض بن ديشان بن عيصر بن أفناد بن أيهام بن مقصر بن ناحث بن زارح بن سمي بن مزي بن عوضة بن عرام بن قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام .
الجزء الثالث
ما فوق إبراهيم عليه السلام ، وهو ابن تارح _ واسمه آزر _ بن ناحور بن ساروع _أو ساروغ _ بن راعو بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح _ عليه السلام _ بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ _ يقال هو إدريس عليه السلام _ ابن يرد بن مهلائيل بن قينان بن آنوشة بن شيث بن آدم عليهما السلام .
المولد
ولد سيد المرسلين بشعب بني هاشم بمكة في صبيحة يوم الاثنين التاسع من شهر ربيع الأول ، لأول عام من حادثة الفيل ، ولأربعين سنة خلت من ملك كسرى أنوشروان ويوافق ذلك العشرين أو الثاني وعشرين من شهر أبريل سنة 571 حسبما حققه العالم الكبير محمد سليمان المنصور فوري والمحقق الفلكي محمود باشا .
وروى ابن سعد أن أم رسول الله قالت: لما ولدته خرج من فرجي نور أضاءت له قصور الشام .
وروى أحمد عن العرباض بن سارية ما يقارب ذلك .
وقد روي أن إرهاصات بالبعثة وقعت عند الميلاد ، فسقطت أربع عشرة شرفة من إيوان كسرى، وخمدت النار التي يعبدها المجوس ، وانهدمت الكنائس حول بحيرة ساوة بعد أن غاضت ، روي ذلك البيهقي ولا يقره محمد الغزالي .
ولما ولدته أمه أرسلت إلى جده عبد المطلب تبشره بحفيده ، فجاء مستبشراً ودخل به الكعبة ، ودعا الله وشكر له ، واختار له اسم محمد _ وهذا الاسم لم يكن معروفاً في العرب _ وختنه يوم سابعه كما كان العرب يفعلون ، وأول من أرضعته من المراضع _ بعد أمه _ ثويبة مولاة أبي لهب بلبن ابن لها يقال له مسروح ، وكانت قد أرضعت قبله حمزة بن عبد المطلب ، وأرضعت بعده أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي .
في غار حراء
ولما تقاربت سنه الأربعين وكانت تأملاته الماضية قد وسعت الشقة العقلية بينه وبين قومه ، حبب إليه الخلاء فكان يأخذ السويق والماء ويذهب إلى غار حراء في جبل النور على مبعدة نحو ميلين من مكة _ وهو غار لطيف طوله أربعة أذرع وعرضه ذراع وثلاثة أرباع ذراع من ذراع الحديد _ ومعه أهله قريباً منه فيقيم فيه شهر رمضان يطعم من جاءه من المساكين ويقضي وقته في العبادة والتفكير فيما حوله من مشاهد الكون وفيما وراءها من قدرة مبدعة وهو غير مطمئن لما عليه قومه من عقائد الشرك المهلهلة وتصوراتها الواهية ولكن ليس بين يديه طريق واضح ولا منهج محدد ولا طريق قاصد يطمئن إليه ويرضاه .
وكان اختياره لهذه العزلة طرفا من تدبير الله له وليعده لما ينتظره من الأمر العظيم ولابد لأي روح يراد لها أن تؤثر في واقع الحياة البشرية فتحولها وجهة أخرى .
لابد لهذه الروح من خلوة وعزلة بعض الوقت وانقطاع عن شواغل الأرض وضجة الحياة وهموم الحياة وهموم الناس الصغيرة التي تشغل الحياة .
وهكذا دبر الله لمحمد وهو يعده لحمل الأمانة الكبرى وتغيير وجه الأرض وتعديل خط التاريخ : دبر له هذه العزلة قبل تكليفه بالرسالة بثلاث سنوات ينطلق في هذه العزلة شهراً من الزمان مع روح الوجود الطليقة ويتدبر ما وراء الوجود من غيب مكنون حتى يحين موعد التعامل مع هذا الغيب عندما يأذن الله .
أمر القيام بالدعوة إلى الله وموادها
تلقى النبي أوامر عديدة في قولة تعالى يا أيها المدثر(1) قم فأنذر (2) وربك فكبر (3) وثيابك فطهر (4) والرجز فاهجر (5) ولا تمنن تستكثر (6) ولربك فاصبر أوامر بسيطة ساذجة في الظاهر ، بعيدة المدى والغاية ، قوية الأثر والفعل في الحقيقة ونفس الأمر .
1_ فغاية القيام بالإنذار أن لا يترك أحداً ممن يخالف مرضاة الله في عالم الوجود إلا وينذره بعواقبه الوخيمة حتى تقع رجفة وزلزال في قلبه وروعه .
2_ وغاية تكبير الرب أن لا يترك لأحد كبرياء في الأرض إلا وتكسر شوكتها وتقلب ظهراً لبطن ، حتى لا يبقى في الأرض إلا كبرياء الله تعالى .
3_ وغاية تطهير الثياب وهجران الرجز أن يبلغ في تطهير الظاهر والباطن وفي تزيكة النفس من جميع الشوائب والألواث إلى أقصى حد وكمال يمكن لنفس بشرية تحت ظلال رحمة الله الوارفة وحفظه وكلئه وهدايته ونوره حتى يكون أعلى مثل في المجتمع البشري تجتذب إليه القلوب السليمة وتحس بهيبته وفخامته القلوب الزائغة حتى ترتكز إليه الدنيا بأسرها وفاقا أو خلافاً .
4_ وغاية عدم الإستكثار بالمنة أن لا يعد فعالاته وجهوده فخيمة عظيمة بل لا يزال يجتهد في عمل بعد عمل ويبذل الكثير من الجهد والتضحية والفناء ثم ينسى كل ذلك بل يفنى بالشعور بالله بحيث لا يحس ولا يشعر بما بذل وقدم .
5_ وفي الآية الأخيرة إشارة إلى ما سيلقاه من أذى المعاندين من المخالفة والإستهزاء والسخرية إلى الجد والإجتهاد في قتله وقتل أصحابه وإبادة كل من التف حوله من المؤمنين يأمر الله تعالى أن يصبر على كل من ذلك بقوة وجلادة لا لينال حظاً من حظوظ نفسه بل لمجرد مرضاة ربه .
الله أكبر ما أبسط هذه الأوامر في صورتها الظاهرة وما أروعها في إيقاعاتها الهادئة الخلابة ولكن ما أكبرها وأفخمها وأشدها في العمل وما أعظمها إثارة لعاصفة هوجاء تحضر جوانب العالم كله وتتركها يتلاحم بعضها في بعض .
والآيات نفسها تشتمل على مواد الدعوة والتبليغ فالإنذار نفسه يقتضي أن هناك أعمالاً لها عاقبة سوأى يلقاها أصحابها ونظراً لما يعرفه كل أحد أن الدنيا لا يجازى فيها بكل ما يعمل الناس بل ربما لا يمكن المجازاة بجميع الأعمال . فالإنذار يقتضي يوماً للمجازاة غير أيام الدنيا وهو الذي يسمى بيوم القيامة ويوم الجزاء والدين وهذا يستلزم حياة أخرى غير الحياة التي نعيشها في الدنيا .
وسائر الآيات تطلب من العباد التوحيد الصريح وتفويض الأمور كلها إلى الله تعالى وترك مرضاة النفس ومرضاة العباد إلى مرضاة الله تعالى .
فإذن تتلخص هذه المواد في :
أ _ التوحيد .
ب _ الإيمان بيوم الآخرة .
ج _ القيام بتزكية النفس بأن تتناهى عن المنكرات والفواحش التي تفضي إلى سوء العاقبة وبأن تقوم باكتساب الفضائل والكمالات وأعمال الخير .
د _ تفويض الأمور كلها إلى الله تعالى .
هـ _ وكل ذلك بعد الإيمان برسالة محمد وتحت قيادته النبيلة وتوجيهاته الرشيدة .
ثم إن مطلع الآيات تضمنت النداء العلوي _ في صوت الكبير المتعال _ بانتداب النبي لهذا الأمر الجلل وانتزعه من النوم والتدثر والدفء إلى الجهاد والكفاح والمشقة يا أيها المدثر (1) قم فأنذر (2) كأنه قيل : إن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحاً أما أنت الذي تحمل هذا العبء الكبير فمالك والنوم ؟ وما لك والراحة ؟ ومالك والفراش الدافئ ؟ والعيش الهادئ ؟ والمتاع المريح ! قم للأمر العظيم الذي ينتظرك والعبء الثقيل المهيأ لك قم للجهد والنصب والكد والتعب . قم فقد مضى وقت النوم والراحة وما عاد منذ اليوم إلا السهر المتواصل والجهاد الطويل الشاق قم فتهيأ لهذا الأمر واستعد .
إنها لكلمة عظيمة رهيبة تنزعه من دفء الفراش في البيت الهادئ والحضن الدافئ لتدفع به في الخضم بين الزعازع والأنواء وبين الشد والجذب في ضمائر الناس وفي واقع الحياة سواء .
وقام رسول الله فظل قائماً بعدها أكثر من عشرين عاماً ! لم يسترح ولم يسكن ولم يعش لنفسه ولا لأهله قام وظل قائماً على دعوة الله يحمل على عاتقة العبء الثقيل الباهظ ولا ينوء به ، عبء الأمانة الكبرى في هذه الأرض ، عبء البشرية كلها ، عبء العقيدة كلها ، عبء الكفاح والجهاد في ميادين شتى ، عاش في المعركة الدائبة المستمرة أكثر من عشرين عاماً لا يلهيه شأن عن شأن في خلال هذا الأمد منذ أن سمع النداء العلوي الجليل وتلقى منه التكليف الرهيب .. جزاه الله عنا وعن البشرية كلها خير الجزاء .
وليس هذا الموقع إلى صورة مصغرة بسيطة من هذا الجهاد الطويل الشاق الذي قام به رسول الله خلال هذا الأمد
أدوار الدعوة ومراحلها
يمكن أن نقسم عهد الدعوة المحمدية _ على صاحبها الصلاة والسلام والتحية _ إلى دورين يمتاز أحدهما عن الآخر تمام الامتياز وهما :
1 _ الدور المكي ، ثلاث عشرة سنة تقريباً .
2 _ الدور المدني ، عشر سنوات كاملة .
ثم يشتمل كل من الدورين على مراحل لكل منها خصائص تمتاز بها عن غيرها ويظهر ذلك جلياً بعد النظر الدقيق في الظروف التي مرت بها الدعوة خلال الدورين .
ويمكن تقسيم الدور المكي إلى ثلاث مراحل :
1 - مرحلة الدعوة السرية ، ثلاث سنين .
2 _ مرحلة إعلان الدعوة في أهل مكة ، من بداية السنة الرابعة من النبوة إلى أواخر السنة العاشرة .
3 _ مرحلة الدعوة خارج مكة ، وفشوها فيهم ، من أواخر السنة العاشرة من النبوة إلى هجرته إلى المدينة .
أما مراحل الدور المدني فهي مفصلة في قسمها الخاص من هنا
المرحلة الأولى ( جهاد الدعوة ) - ثلاث سنوات من الدعوة السرية
معلوم أن مكة كانت مركز دين العرب وكان بها سدنة الكعبة والقوام على الأوثان والأصنام المقدسة عند سائر العرب فالوصول إلى المقصود من الإصلاح فيها يزداد عسراً وشدة عما لو كان بعيداً عنها . فالأمر يحتاج إلى عزيمة لا تزلزلها المصائب والكوارث كان من الحكمة تلقاء ذلك أن الدعوة في بدء أمرها سرية ، لئلا يفاجئ أهل مكة بما يهيجهم .
المرحلة الثانية ( الدعوة جهاراً ) - أول أمر بإظهار الدعوة
أول مانزل بهذا الصدد قوله تعالى وأنذر عشيرتك الأقربين والسورة التي وقعت فيها الآية _ وهي سورة الشعراء _ ذكرت فيها أولاً قصة موسى عليه السلام من بداية نبوتة إلى هجرته مع بني إسرائيل ونجاتهم من فرعون وقومه وإغراق آل فرعون معه وقد اشتملت هذه القصة على جميع المراحل التي مر بها موسى عليه السلام خلال دعوة فرعون وقومه إلى الله .
أرى أن هذا التفصيل إنما جئ به حين أمر الرسول بدعوة قومه إلى الله ليكون أمامه وأمام أصحابه نموذجاً لما سيلقونه من التكذيب والإضطهاد حينما يجهرون بالدعوة وليكونوا على بصيرة من أمرهم منذ بداية دعوتهم .
ومن ناحية أخرى تشتمل هذه السورة على ذكر مآل المكذبين للرسل من قوم نوح وعاد ، وثمود ، وقوم إبراهيم ، وقوم لوط ، وأصحاب الأيكة _ علاوة ماذكر من أمر فرعون وقومه _ ليعلم الذين سيقومون بالتكذيب بما يؤول إليه أمرهم وبما سيلقون من مؤاخذة الله إن استمروا على التكذيب وليعرف المؤمنون أن حسن العاقبة لهم لا للمكذبين
المقاطعة العامة
وقعت أربع حوادث ضخمة _ بالنسبة إلى المشركين _ خلال أربعة أسابيع ، أو في أقل مدة ، منها : أسلم حمزة ، ثم أسلم عمر ، ثم رفض محمد مساومتهم ثم تواثق بنو المطلب وبنو هاشم كلهم مسلمهم وكافرهم ، على حياطة محمد ومنعه ، حار المشركون وحقت لهم الحيرة ، إنهم لو قاموا بقتل محمد يسيل وادي مكة دونه بدمائهم بل ربما يفضي إلى استئصالهم . عرفوا ذلك فانحرفوا إلى ظلم آخر دون القتل ، لكن أشد مضاضة عما فعلوا بعد .
عام الحزن - وفاة أبي طالب
ألح المرض بأبي طالب ، فلم يلبث أن وافته المنية ، وكانت وفاته في رجب سنة عشر من النبوة بعد الخروج من الشعب بستة أشهر . وقيل : توفي في رمضان قبل وفاة خديجة رضي الله عنها بثلاثة أيام.
وفي الصحيح عن المسيب : أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه رسول الله وعنده أبو جهل ، فقال : أي عم ، قل : لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله ، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب ، ترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فلم يزالا يكلماه حتى قال آخر شيء كلمهم به : على ملة عبد المطلب . فقال النبي : لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ، فنزلت ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ونزلت إنك لا تهدي من أحببت
ولا حاجة إلى بيان ما كان عليه أبو طالب من الحياطة والمنع ، فقد كان الحصن الذي تحتمي به الدعوة الإسلامية من هجمات الكبراء والسفهاء ، ولكنه بقي على ملة الأشياخ من أجداده ، فلم يفلح كل الفلاح . ففي الصحيح عن العباس بن عبد المطلب ، قال للنبي : ما أغنيت عن عمك ، فإنه كان يحوطك ويغضب لك ؟ قال : هو في ضحضاح من نار ، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار .
وعن أبي سعيد الخدري أنه سمع النبي _ وذكر عنده عمه _ فقال : لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة ، فيجعل في ضحضاح من النار تبلغ كعبيه .
المرحلة الثالثة - الرسول في الطائف
في شوال سنة عشر من النبوة ( في أواخر مايو أو أوائل يونيو سنة 619م ) خرج النبي إلى الطائف وهي تبعد عن مكة نحو ستين ميلاً ، سارها ماشياً على قدميه جيئة وذهوباً ومعه مولاه زيد بن حارثة ، وكان كلما مر على قبيلة في الطريق دعاهم إلى الإسلام ، فلم يجب إليه واحدة منها . فلما انتهى إلى الطائف عمد ثلاثة إخوة من رؤساء ثقيف ، وهم عبد ياليل ومسعود وحبيب أبناء عمرو بن عمير الثقفي، فجلس إليهم ودعاهم إلى الله ، وإلى نصرة الإسلام ، فقال أحدهم : هو يمرط ثياب الكعبة ( أي يمزقها )إن كان الله أرسلك ، وقال الآخر : أما وجد الله أحداً غيرك ، وقال الثالث : والله لا أكلمك أبداً ، إن كنت رسولاً لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام ، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي أن أكلمك . فقام عنهم رسول الله ، وقال لهم : إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني .
وأقام رسول الله بين أهل الطائف عشرة أيام ، لا يدع أحداً من أشرافهم إلا جاءه وكلمة ، فقالوا: اخرج من بلادنا ، وأغروا به سفهاءهم ، فلما أراد الخروج تبعه سفهاءهم وعبيدهم ، يسبونه ويصيحون به ، حتى اجتمع عليه الناس ، فوقفوا له سماطين ( أي صفين ) وجعلوا يرمونه بالحجارة وبكلمات من السفه ، ورجموا عراقيبه ، حتى اختضب نعلاه بالدماء . وكان زيد بن حارثة يقيه بنفسه ، حتى أصابه شجاج في رأسه ولم يزل به السفهاء كذلك حتى ألجأوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة ، على ثلاثة أميال من الطائف ، فلما التجأ إليه رجعوا عنه، وأتى رسول الله إلى حبلة من عنب فجلس تحت ظلها إلى جدار فلما جلس إليه واطمأن ، دعا بالدعاء المشهور الذي يدل على امتلاء قلبه كآبه وحزناً مما لقي من الشدة ، وأسفا على أنه لم يؤمن به أحد ، قال : اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين ، وأنت ربي ، إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتهجمني ؟ أم إلى عدو ملكته أمري ؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ، ولكن عافيتك هي أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك ، أو يحل علي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك
فلما رآه ابنا ربيعة تحركت له رحمهما ، فدعوا غلاماً لهما نصرانياً ، يقال له عداس ، وقالا له : خذ قطفا من هذا العنب واذهب به إلى هذا الرجل . فلما وضعه بين يدي رسول الله مد يده إليه قائلاً (( بسم الله )) ثم أكل .
فقال عداس : إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد ، فقال له رسول الله من أي البلاد أنت ؟ وما دينك ؟ قال : أنا نصراني ، من أهل (( نينوى)) فقال رسول الله من قرية الرجل الصالح يونس بن متى . قال له : وما يدريك ما يونس بن متى ؟ قال رسول الله : ذاك أخي ، كان نبياً وأنا نبي ، فأكب عداس على رأس رسول الله ويديه ورجليه يقبلها .
فقال ابنا ربيعة أحدهما للآخر : أما غلامك فقد أفسده عليك . فلما جاء عداس قالا له : ويحك ما هذا ؟ قال : يا سيدي ، ما في الأرض شيء خير من هذا الرجل ، لقد أخبرني بأمر لا يعلمه إلا نبي قال له : ويحك يا عداس ، لا يصرفنك عن دينك ، فإن دينك خير من دينه .
ورجع رسول الله في طريق مكة بعد خروجه من الحائط كئيباً محزوناً كسير القلب ، فلما بلغ قرن المنازل بعث الله جبريل ومعه ملك الجبال ، يستأمره أن يطبق الأخشبين على أهل مكة .
وقد روى البخاري تفصيل القصة _ بسنده _ عن عروة بن الزبير ، أن عائشة رضي الله عنها حدثته أنها قالت للنبي : هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ قال : لقيت من قومك ما لقيت ، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة ، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال ، فلم يجبني إلى ما أردت ، فانطلقت _ وأنا مهموم _ على وجهي ، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب _ وهو المسمى بقرن المنازل _ فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني ، فنظرت فإذا فيها جبريل ، فناداني ، فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك ، وما ردوا عليك . وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم . فناداني ملك الجبال ، فسلم عليّ ، ثم قال : يا محمد ، ذلك فما شئت ، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين _ أي لفعلت ، والأخشبان : هما جبلا مكة ، أبو قبيس والذي يقابله وهو قعيقعان _ قال النبي : بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يشرك به شيئاً .
وفي هذا الجواب الذي أدلى به الرسول تتجلى شخصيته الفذة وما كان عليه من الخلق العظيم الذي لا يدرك غوره .
وأفاق رسول الله ، وأطمأن قلبه ، لأجل هذا النصر الغيبي الذي أمده الله عليه من فوق سبع سماوات ثم تقدم في طريق مكة حتى بلغ وادي نخلة ، وأقام فيه أياماً . وفي وادي نخلة موضعان يصلحان للإقامة _ السيل الكبير والزيمة _ لما بهما من الماء والخصب ، ولم نقف على مصدر يعين موضع إقامته فيه .
وخلال إقامته هناك بعث الله إليه نفراً من الجن ، ذكرهم الله في موضعين من القرآن ، في سورة الأحقاف وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين (29) قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً انزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم (30) يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم
وفي سورة الجن : قل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجن فقالوا: إنا سمعنا قرآنا عجباً (1) يهدي إلى الرشد فآمنا به ولم نشرك بربنا أحداً إلى تمام الآية الخامسة عشرة .
ومن سياق هذه الآيات _ وكذا من سياق الروايات التي وردت في تفسير هذا الحادث _ يتبين أن النبي لم يعرف بحضور ذلك النفر من الجن ، وإنما علم ذلك حين أطلعه الله عليه بهذه الآيات ، وأن حضورهم هذا كان لأول مرة ، ويقتضي سياق الروايات أنهم وفدوا بعد ذلك مراراً .
وحقاً كان هذا الحادث نصراً آخر أمده الله من كنوز غيبه المكنون بجنوده التي لا يعلمها إلا هو ، ثم إن الآيات التي نزلت بصدد هذا الحادث كانت في طيها بشارات بنجاح دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وأن أي قوة من قوات الكون لا تستطيع أن تحول بينها وبين نجاحها ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء ، أولئك في ضلال مبين وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هرباً
أمام هذه النصرة وأمام هذه البشارات ، أقشعت صحابة الكآبة والحزن واليأس، التي كانت مطبقة عليه منذ أن خرج من الطائف مطروداً مدحوراً ، حتى صمم على العود إلى مكة ، وعلى القيام باستئناف خطته الأولى في عرض الإسلام وإبلاغ رسالة الله الخالدة بنشاط جديد وجد وحماس .
وحينئذ قال له زيد بن حارثة : كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك ؟ يعني قريشاً ، فقال : يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجاً ومخرجاً ، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه . وسار رسول الله حتى إذا دنا من مكة مكث بحراء وبعث رجلاً من خزاعة إلى الأخنس بن شريق ليجيره ، فقال : أنا حليف ، والحليف لا يجير . فبعث إلى سهيل بن عمرو ، فقال سهيل : إن بني عارم لا تجير على بني كعب ، فبعث إلى المطعم بن عدي ، فقال المطعم : نعم ، ثم تسلح ودعا بنيه وقومه فقال : البسو السلاح ، وكونوا عند أركان البيت ، فإني قد أجرت محمداً ، ثم بعث إلى رسول الله : أن ادخل ، فدخل رسول الله ومعه زيد بن حارثة حتى انتهى إلى المسجد الحرام ، فقام المطعم بن عدي على راحلته فنادى يا معشر قريش ، إني قد أجرت محمداً فلا يهجه أحد منكم ، وانتهى رسول الله إلى الركن فا ستلمه ، وصلى ركعتين ، وانصرف إلى بيته ، ومطعم بن عدي وولده محدقون به بالسلاح حتى دخل بيته .
وقيل : إن أبا جهل سأل مطعماً : أمجير أنت أم متابع _ مسلم _ ؟ قال : بل مجير . قال : قد أجرنا من أجرت .
وقد حفظ رسول الله للمطعم هذا الصنيع ، فقال في أساري بدر : لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له .
وبينا النبي في هذه المرحلة التي كانت دعوته تشق فيها طريقاً بين النجاح والإضطهاد ، وكانت تتراءى نجوماً ضئيلة تتلمح في آفاق بعيدة ، وقع حادث الإسراء والمعراج .
واختلف في تعيين زمنه على أقوال شتى :
1- فقيل : كان الإسراء في السنة التي أكرمه الله فيها بالنبوة ، اختاره الطبري .
2- وقيل : كان بعد المبعث بخمس سنين ،رجح ذلك النوري والقرطبي .
3- وقيل : كان ليلة السابع والعشرين من شهر رجب سنة 10 من النبوة ، واختاره العلامة المنصور فوري .
4- وقيل : قبل الهجرة بستة عشر شهراً ، أي في رمضان سنة 12 من النبوة .
5- وقيل : قبل الهجرة بسنة وشهرين ، أي في المحرم سنة 13 من النبوة .
6- وقيل : قبل الهجرة بسنة ، أي في ربيع الأول سنة 13 من النبوة .
وردت الأقوال الثلاثة الأول بأن خديجة رضي الله عنها توفيت في رمضان سنة عشر من النبوة وكانت وفاتها قبل أن تفرض الصلوات الخمس ، ولا خلاف أن فرض الصلوات الخمس كانت ليلة الإسراء . أما الأقوال الثلاثة الباقية فلم أجد ما أرجح به واحداً منها ، غير أن سياق سورة الإسراء يدل على أن ألإسراء يدل على أن الإسراء متأخر جداً .
وروى أئمة الحديث تفاصيل هذه الوقعة . وفيما يلي نسردها بإيجاز :
قال ابن القيم : أسري برسول الله بجسده على الصحيح ، من المسجد الحرام إلى بيت المقدس ، راكباً على البراق ، صحبة جبريل عليهما الصلاة والسلام ، فنزل هناك ، وصلى بالأنبياء إماماً ، وربط البراق بحلقة باب المسجد.
ثم عرج به تلك الليلة من بيت المقدس إلى السماء الدنيا ، فا ستفتح له جبريل ، ففتح له ، فرأى هنالك آدم أبا البشر ، فسلم عليه ، فرحب به ، ورد عليه السلام ، وأقر بنبوته ، وأراه الله أرواح الشهداء عن يميينه وأرواح الأشقياء عن يساره .
ثم عرج به إلى السماء الثانية ، فا ستفتح له ، فرأى فيها يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم ، فلقيهما وسلم عليهما ، فردا عليه ، ورحبا به ، وأقرا بنبوته .
ثم عرج به إلى السماء الثالثة ، فرأى يوسف ، فسلم عليه ، فرد عليه ورحب به ، وأقر بنبوته .
ثم عرج به إلى السماء الرابعة ، فرأى إدريس ، فسلم عليه ، ورحب به وأقر بنبوته .
ثم عرج به إلى السماء السادسة فلقي فيها موسى بن عمران ، فسلم عليه ورحب به ، وأقر بنبوته .
فلما جاوزه بكى موسى ، فقيل له : ما يبكيك ؟ فقال : أبكي لأن غلاماً بعث من بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي .
ثم عرج به إلى السماء السابعة ، فلقي إبراهيم عليه السلام ، فسلم عليه ، ورحب به ، وأقر بنبوته .
ثم رفع إلى سدرة المنتهى ، ثم رفع له البيت المعمور .
ثم عرج إلى الجبار جل جلاله ، فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى ، فأوحى إلى عبده ما أوحى ، وفرض عليه خمسين صلاة ، فرجع حتى مرّ على موسى ، فقال له : بم أمرك ؟ قال بخمسين صلاة : قال : إن أمتك لا تطيق ذلك ، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك ، فالتفت إلى جبريل ، كأنه يستشيره في ذلك ، فأشار : أن نعم ، إن شئت ، فعلا به جبريل حتى أتى به الجبار تبارك وتعالى ، وهو في مكانه _ هذا لفظ البخاري في بعض الطرق _ فوضع عنه عشراً ، ثم أنزل حتى مر بموسى ، فأخبره ، فقال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فلم يزل يتردد بين موسى وبين الله عز وجل ، حتى جعلها خمساً ، فأمره موسى بالرجوع وسؤال التخفيف ، فقال : قد استحييت من ربي ، ولكني أرضى وأسلم ، فلما بعد نادى مناد : قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي _ انتهى .
ثم ذكر ابن القيم خلافاً في رؤيته ربه تبارك وتعالى ، ثم ذكر كلاماً لابن تيمية بهذا الصدد ، وحاصل البحث أن الرؤية بالعين لم تثبت أصلاً وهو قول لم يقله أحد من الصحابة . وما نقل عن ابن عباس من رؤيته مطلقاً ورؤيته بالفؤاد فا لأول ينافي الثاني .
ثم قال : وأما قوله تعالى في سورة النجم ثم دنا فتدلى فهو غير الدنو الذي في قصة الإسراء ، فإن الذي في سورة النجم هو دنو جبريل ، وتدليه ، كما قالت عائشة وابن مسعود ، والسياق يدل عليه وأما الدنو والتدلي في حديث الإسراء فذلك صريح في أنه دنو الرب تبارك وتعالى وتدليه ، ولا تعرض في سورة النجم لذلك ، بل فيه أنه رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى . وهذا جبريل ، رآه محمد على صورته مرتين : مرة في الأرض ومرة عند سدرة المنتهى . والله أعلم _ انتهى .
وقد وقع حادث شق صدره هذه المرة أيضاً وقد رأى ضمن هذه الرحلة أموراً عديدة :
عرض عليه اللبن والخمر ، فاختار اللبن ، فقيل : هديت الفطرة أو أصبت الفطرة ، أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك .
ورأى أربعة انهار في الجنة : نهران ظاهران ، ونهران باطنان ، والظاهران هما : النيل والفرات ، ومعنى ذلك أن رسالته ستتوطن الأودية الخصبة في النيل والفرات ، وسيكون أهلها حملة الإسلام جيلاً بعد جيل ، وليس معناه أن مياه النهرين تنبع من الجنة .
ورأى مالك خازن النار ، وهو لا يضحك ، وليس على وجهه بشر وبشاشة ، وكذلك رأى الجنة والنار .
ورأى أكلة أموال اليتامى ظلماً لهم مشافر كمشافر الإبل ، يقذفون في أفواههم قطعاً من نار كالأفهار فتخرج من أدبارهم .
ورأى أكلة الربا لهم بطون كبيرة ، لا يقدرون لأجلها أن يتحولوا عن مكانهم ، ويمر بهم آل فرعون حين يعرضون على النار فيطأونهم .
ورأى الزناة بين أيديهم لحم سمين طيب إلى جنبه لحم غث منتن ، يأكلون من الغث المنتن ، ويتركون الطيب السمين .
ورأى النساء اللاتي يدخلن على الرجال من ليس أولادهم ، رآهن معلقات بثديهن.
ورأى عيراً من أهل مكة في الإياب والذهاب ، وقد دلهم على بعير ندّ لهم وشرب ماءهم من إناء مغطى وهم نائمون ، ثم ترك الإناء مغطى ، وقد صار ذلك دليلاً على صدق دعواه في صباح ليلة الإسراء .
قال ابن القيم : فلما أصبح رسول الله في قومه أخبرهم بما أراه الله عز وجل من آياته الكبرى ، فا شتد تكذيبهم له وأذاهم واستضرارهم عليه ، وسألوه أن يصف لهم بيت المقدس فجلاه الله له ، حتى عاينه فطفق يخبرهم عن آياته ولا يستطيعون أن يردوا عليه شيئاً ، وأخبرهم عن البعير الذي يقدمها وكان الأمر كما قال ، فلم يزدهم ذلك إلا نفوراً ، وأبى الظالمون إلا كفوراً .
يقال سمى أبو بكر رضي الله عنه صديقاً ، لتصديقه هذه الوقعة حين كذبها الناس .
وأوجز وأعظم ماورد في تعليل هذه الرحلة هو قوله تعالى : لنريه من آياتنا وهذه سنة الله في الأنبياء قال : وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ، وليكون من الموقنين وقال لموسى : لنريك من آياتنا الكبرى وقد بين مقصود هذه الإرادة بقولة : { وليكون من الموقنين } فبعد استناد علوم الأنبياء إلى رؤية الآيات يحصل لهم من عين اليقين ما لا يقادر قدره ، وليس الخبر كالمعاينة ، فيتحملون في سبيل الله مالا يتحمل غيرهم ، وتصير جميع قوات الدنيا عندهم كجناح بعوضة لا يعبأون بها إذا ما تدول عليهم المحن والعذاب.
والحكم والأسرار التي تمكن وراء جزئيات هذه الرحلة إنما محل بحثها كتب أسرار الشريعة ، ولكن هنا حقائق بسيطة تتفجر من ينابيع هذه الرحلة المباركة وتتدفق إلى حدائق أزهار السيرة النبوية _ على صاحبها الصلاة والسلام والتحية _ أرى أن أسجل بعضاً منها بالإيجاز :
يرى القارئ في سورة الإسراء أن الله ذكر قصة الإسراء في آية واحدة فقط ، ثم أخذ في ذكر فضائح اليهود وجرائمهم ، ثم نبههم بان هذا القرآن يهدي للتي هي اقوم فربما يظن القارئ ان الآيتين ليس بينهما ارتباط ، والأمر ليس كذلك ، فإن الله تعالى يشير بهذا الأسلوب إلى أن الإسراء إنما وقع إلى بيت المقدس ، لأن اليهود سيعزلون عن منصب قيادة الأمة الإنسانية ، لما ارتكبوا من الجرائم التي لم يبق معها مجال لبقائهم على هذا المنصب ، وأن الله سينقل هذا المنصب فعلا إلى رسوله ويجمع له مركزي الدعوة الإبراهيمية كليهما ، فقد آن أوان انتقال القيادة الروحية من امة إلى امة ، من أمة ملأت تاريخها بالغدر والخيانة والإثم والعدوان ، إلى أمة تتدفق بالبر والخيرات ، ولا يزال رسولها يتمتع بوحي القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم .
ولكن كيف تنتقل هذه القيادة والرسول يطوف في جبال مكة مطروداً بين الناس ، هذا السؤال يكشف الغطاء عن حقيقة أخرى ، وهي أن دوراً من هذه الدعوة الإسلامية قد أوشك إلى النهاية والتمام ، وسيبدأ دور آخر يختلف عن الأول في مجراه ولذلك نرى بعض الآيات تشتمل على إنذار سافر ووعيد شديد بالنسبة إلى المشركين وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً … وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيراً بصيراً وبجنب هذه الآيات آيات أخرى تبين للمسلمين قواعد الحضارة وبنودها ومبادئها التي يبتنى عليها مجتمعهم الإسلامي ، كأنهم قد أووا إلى الأرض تملكوا فيها أمورهم من جميع النواحي ، وكونوا وحدة متماسكة تدور عليها رحى المجتمع ، ففيه إشارة إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيجد ملجأ ومأمنا يستقر فيه أمره ، ويصير مركزاً لبث دعوته في أرجاء الدنيا . هذا سر من أسرار هذه الرحلة المباركة ، يتصل ببحثنا فآثرنا ذكره .
ولأجل هذه الحكمة وأمثالها نرى أن الإسراء إنما وقع إما قبيل بيعة العقبة الأولى أو بين العقبتين ، والله أعلم .
قد ذكرنا أن ستة من أهل يثرب أسلموا في موسم الحج سنة 11 من النبوة ، وواعدوا رسول الله إبلاغ رسالته في قومهم .
وكان من جراء ذلك أن جاء في الموسم التالي _ موسم الحج سنة 12 من النبوة يوليو سنــة 621 _ إثنا عشر رجلاً ، فيهم خمسة من الستة الذين كانوا قد اتصلوا برسول الله في العام السابق _ والسادس لم يحضر هو جابر بن عبد الله بن رئاب _ وسبعة سواهم . وهـــم :
1- معاذ بن الحارث ، ابن عفراء
2- ذكوان بن عبد القيس
3- عبادة بن الصامت
4- يزيد بن ثعلبة
5- العباس بن عبادة بن نضلة
6- أبو الهيثم بن التيهان
7- عويم بن ساعدة
من بني النجار
من بني زريق
من بني غنم
من حلفاء بني غنم
من بني سالم
من بني عبد الأشهل
من بني عمرو بن عوف ( من الخزرج )
( من الخزرج )
( من الخزرج )
( من الخزرج )
( من الخزرج )
( من الأوس )
( من الأوس )
الأخيران من الأوس والبقية كلهم من الخزرج .
اتصل هؤلاء برسول الله عند العقبة بمنى ، فبايعوه بيعة النساء أي وفق بيعتهن التي نزلت عند فتح مكة .
روى البخاري عن عبادة بن الصامت أن رسول الله قال : تعالوا ، بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ، ولا تسرقوا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا أولادكم ، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ، ولا تعصوني في معروف ، فمن وفي منكم فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة ، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله ، فأمره إلى الله ، إن شاء عاقبه ، وإن شاء عفا عنه . قــال : فبايعته _ وفي نسخة فبايعناه _ على ذلك .
بيعة العقبة الثانية
في موسم الحج السنة الثالثة عشر من النبوة _ يونيو سنة 622 م _ حضر لأداء مناسك الحج بضع وسبعون نفساً من المسلمين من أهل يثرب جاؤا ضمن حجاج قومهم من المشركين ، وقد تساءل هؤلاء المسلمون فيما بينهم _ وهم لم يزالوا في يثرب أو كانوا في الطريق _ حتى متى نترك رسول الله يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف ؟
فلما قدموا مكة جرت بينهم وبين النبي اتصالات سرية ، أدت إلى اتفاق الفريقين على أن يجتمعوا في أوسط أيام التشريق في الشعب الذي عند العقبة حيث الجمرة الأولى من منى ، وأن يتم هذا الاجتماع في سرية تامة في ظلام الليل .
ولنترك أحد قادة الأنصار يصف لنا هذا الاجتماع التاريخي الذي حول مجرى الأيام في صراع الوثنية والإسلام ، يقول كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه :
· (( خرجنا إلى الحج ، وواعدنا رسول الله بالعقبة من أوسط أيام التشريق وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لها ، ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام ، سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا ، أخذناه معنا _ وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا _ فكلمناه ، وقلنا له : يا أبا جابر ، إنك سيد من ساداتنا ، وشريف من أشرافنا ، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطباً للنار غداً ، ثم دعوناه إلى الإسلام وأخبرناه بميعاد رسول الله إيانا العقبة ، قال : فأسلم وشهد معنا العقبة ، وكان نقيباً ))
· قال كعب : (( فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا ، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لمعاد رسول الله ، نتسلل تسلل القطا مستخفين حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة ، ونحن ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان من نسائنا ، نسيبة بنت كعب _ أم عمارة _ من بني مازن بن النجار ، وأسماء بنت عمرو _ أم منيع _ من بني سلمة ))
فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله حتى جاءنا ، ومعه ( عمه ) العباس عبد المطلب _ وهو يومئذ على دين قومه _ إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه وتوثق له ، وكان أول متكلم
طلائع الهجرة
وبعد أن تمت بيعة العقبة الثانية ، ونجح الإسلام في تأسيس وطن له وسط صحراء تموج بالكفر والجهالة _ وهو أخطر كسب حصل عليه الإسلام منذ بداية دعوته _ أذن رسول الله للمسلمين بالهجرة إلى هذا الوطن .
ولم يكن معنى الهجرة إلا إهدار المصالح ، والتضحية بالأموال ، والنجاة بالشخص فحسب ، مع الإشعار بأنه مستباح منهوب ، قد يهلك في أوائل الطريق أو نهايتها ، وبأنه يسير نحو مستقبل مبهم ، لا يدري ما يتمخض عنه من قلاقل وأحزان .
وبدأ المسلمون يهاجرون ، وهم يعرفون كل ذلك ، وأخذ المشركون يحولون بينهم وبين خروجهم لما كانوا يحسون من الخطر ، وهاك نماذج من ذلك :
1- كان من أول المهاجرين أبو سلمة _ هاجر قبل العقبة الكبرى بسنة على ما قاله ابن إسحاق _ وزوجته وابنه ، فلما أجمع على الخروج قال له أصهاره : هذه نفسك غلبتنا عليها ، أرأيت صاحبتنا هذه ؟ علام نتركك تسير بها في البلاد ؟ فأخذوا منه زوجته ، وغضب آل أبي سلمة لرجلهم ، فقالــوا : لا نترك ابننا معها إذ نزعتموها من صاحبنا ، وتجاذبوا الغلام بينهم فخلعوا يده ، وذهبوا به . وانطلق أبو سلمة وحده إلى المدينة ، وكانت أم سلمة بعد ذهاب زوجها ، وضياع ابنها تخرج كل غداة با لأبطح تبكي حتى تمسي ، ومضى على ذلك نحو سنة ، فرق لها أحد ذويها وقال : ألا تخرجون هذه المسكينة ؟ فرقتم بينها وبين زوجها وولدها فقالوا لها : الحقي بزوجك إن شئت ، فا سترجعت ابنها من عصبته وخرجت تريد المدينة _ رحلة تبلغ خمسمائة كيلو متراً _ وليس معها احد من خلق الله ، حتى إذا كانت با لتنعيم لقيها عثمان بن طلحة بن أبي طلحة ، وبعد أن عرف حالها شيعها حتى أقدمها إلى المدينة ، فلما نظر إلى قباء قال : زوجك في هذه القرية فا دخليها على بركة الله ثم انصرف راجعاً مكة .
2- ولما أراد صهيب الهجرة قال له كفار قريش : أتيتنا صعلوكاً حقيراً ، فكثر مالك عندنا ، وبلغت الذي بلغت ، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك ؟ والله لا يكون ذلك .
فقال لهم صهيب : أرأيتم إن جعلت لكم مالي ، أتخلون سبيلي ؟ قالوا : نعم . قال : فإني قد جعلت لكم مالي ، فبلغ ذلك رسول الله فقال : ربح صهيب ، ربح صهيب .
3- وتواعد عمر بن الخطاب ، وعياش بن أبي ربيعة ، وهشام بن العاصي بن وائل موضعاً يصبحون عنده ، ثم يهاجرون إلى المدينة ، فاجتمع عمر وعياش وحبس عنهما هشام .
ولما قدما المدينة ونزلا بقباء قدم أبو جهل وأخوه الحارث إلى عياش _ وأم الثلاثة واحدة _ فقالا له : إن أمك قد نذرت أن لا يمس رأسها مشط ، ولا تستظل بشمس حتى تراك ، فرق لها . فقال له عمــر: يا عياش ، أنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم ، فوالله لو آذى أمك القمل لامتشطت ، ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت ، فأبى عياش إلا الخروج معهما ، ليبر قسم أمه ، فقال له عمر : أما إذ قد فعلت ما فعلت فخذ ناقتي هذه فإنها نجيبة ذلول ، فالزم ظهرها ، فإن رابك من القوم ريب فانج عليها . فخرج عليها معهما ، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل : يا ابن أخي والله لقد استغلظت بعيري هذا ، أفلا تعقبني على ناقتك هذه ؟ قال : بلى فأناخ وأناخا ليتحول عليها ، فلما استووا بالأرض عدوا عليه فأوثقاه وربطاه ثم دخلا به مكة نهاراً موثقاً وقالا: يا أهل مكة ، هكذا فافعلوا بسفهائكم ، كما فعلنا بسفيهنا هذا .
هذه ثلاثة نماذج لما كان المشركون يفعلونه بمن يريد الهجرة إذا علموا ذلك . ولكن مع كل ذلك خرج الناس أرسالاً يتبع بعضهم بعض . وبعد شهرين وبضعة أيام من بيعة العقبة الكبرى لم يبق بمكة من المسلمين إلا رسول اللهوأبو بكر وعلي _ أقاما فأمره لهما _ وإلا من احتبسه المشركون كرها ً . وقد أعد رسول الله جهازه ينتظر متى يؤمر بالخروج وأعد أبو بكر جهازه .
روى البخاري عن عائشة قالت : قال رسول الله للمسلمين إني أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين _ وهما الحرتان _ فهاجر من هاجر قبل المدينة . ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة ، وتجهز أبو بكر قبل المدينة ، فقال له رسول الله على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي . فقال له أبو بكر : وهل ترجو ذلك بأبي أنت ؟ قال : نعم فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله ليصحبه ، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر _ وهو الخبط _ أربعة أشهر
هجرة النبي
ولما تم اتخاذ القرار الغاشم بقتل النبي نزل إليه جبريل بوحي ربه تبارك وتعالى ، فأخبره بمؤامرة قريش ، وأن الله قد أذن له في الخروج ، وحدد له وقت الهجرة قائلاً : لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه .
وذهب النبي في الهاجرة إلى أبي بكر رضي الله عنه ، ليبرم معه مراحل الهجرة ، قالت عائشة رضي الله عنها : بينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل لأبي بكر هذا رسول الله متقنعاً في ساعة لم يكن يأتينا فيها ، فقال أبو بكر : فداء له أبي وأمي ، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر .
قالت : فجاء رسول الله فاستأذن ، فأذن له ، فدخل ، فقال النبي لأبي بكر : أخرج من عندك . فقال أبو بكر : إنما أهلك ، بأبي أنت يا رسول الله . قال : فإني قد أذن لي في الخروج ،فقال أبو بكر : الصحبة بأبي أنت يا رسول الله ؟ قال رسول الله : " نعم " .
وبعد إبرام خطة الهجرة رجع رسول الله إلى بيته ينتظر _ مجئ الليل .