رمضان شهر الحرية(1)
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين والصلاة والسلام على رسوله الصادق الأمين المكين نبي الحريّة وعدو العبوديّة ومطهر العقول من أدران الوثنية وسائق ركب الإنسانية إلى السعادة الأبدية وعلى آله وصحبه أحلاف السيوف وقادة الزحوف وأئمة الصفوف وعلى التابعين لآثارهم في نصرة الدين إلى يوم الدين أما بعد:
فإن رمضان شهر الحريّة الحقّة ومدرسة الأحرار الشرفاء بالمعنى الصحيح.
والحديث ههنا سيدور حول هذا المعنى العظيم.
أيها الصائمون الكرام! ليست الحرية كما توهمها أكثر الناس مقصورة على حق الإنسان بالتصرّف كيفما أراد وليست الحرية بالانطلاق وراء الشهوات وسائر الرغبات فتلك الفوضى أولا والعبودية الذليلة أخيرا.
أما إنها فوضى فلأنه ليس في الدنيا حريّة مطلقة غير مقيّدة بنظام بل كلّ شيء في الدنيا له نظام يسيّره وحرية الفرد لا تصان إلا إذا قيّدت ببعض القيود لتسلم حريات الآخرين.
وإنما تمام الحرية _لا كمالها_ قد يكون بالمنع أحيانا فالمريض حين يمنع عن الطعام الذي يضره هو حرّ لم ينتقص من حريته فتيل ولا قطمير فذلك المنع إنما هو منع مؤقت لتسلم له بعد ذلك حريته في تناول ما يشاء من الأغذية.
والمجرم تحدّ حريته مؤقتا ليعرف كيف يستعمل حريته بعد ذلك في إطار كريم لا يؤذي نفسه ولا يؤذي الآخرين.
ثم إن الإنسان مدنيّ بطبعه فلا يعيش وحده وإنما يعيش في مجتمع متماسك يؤذيه كلّه ما يؤذي بعضه ومن هنا كانت الحريّة المطلقة فوضى.
أما كونها عبودية ذليلة فلأن تمام الحرية ألا يستعبدك أحد ممن يساويك في الإنسانية أو يكون دونك فيها.
وفي الفوضى التي يعبر عنها الناس بالحرية الشخصية عبودية ذليلة لمن هو مثلك أو دونك من قيم الحياة المادية فحين تستولي على الإنسان عادة الانطلاق وراء كلّ لذة والانفلات من كلّ قيد يكون قد استعبدته اللذة على أوسع مدى فيصبح أسيرا لها مكبّلا في أغلالها لا يجري في الحياة إلا لأجلها ولا يعمل إلا وفق ما تريد فهذه الحرية التي تنقلب إلى عبودية أهون ما في الحياة من قيمة ومعنى.
ولئن كانت قيمة الإنسان بمقدار ما يناله من لذائذه فإن الحيوان أكثر منه قيمة وأعلى قدرا.
وحين ينطلق الإنسان وراء فتاة يهواها أو وراء الغانيات يشبع بهن لذائذه أيستطيع أن يزعم أنه حر ّمن سلطانهن؟!! أو تراه أسير اللحظات رهن الإشارة شارد اللبّ معنّى القلب أقصى أمانيه في الحياة بسمة من حبيب هاجر أو وصال من جسم ممتنع؟!
أية عبودية أذلّ من هذه العبودية وهو لا يملك زمام نفسه ولا حريّة قلبه فلا يتحكّم في حبه ولا بغضه ولا رضاه ولا غضبه؟!
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فإنّ أسر القلب أعظم من أسر البدن واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن فإن من استعبد بدنه واسترقّ وأسر لا يبالي إذا كان قلبه مستريحا من ذلك مطمئنا بل يمكنه الاحتيال في الخلاص وأما إذا كان القلب _الذي هو ملك الجسم_ رقيقا مستعبدا متيّما لغير الله فهذا هو الذلّ والأسر المحض والعبودية الذليلة لما استعبد القلب.
وعبودية القلب وأسره هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب فإن المسلم لو أسره كافر أو استرقّه فاجر بغير حق لم يضرّه ذلك إذا كان قائما بما يقدر عليه من الواجبات ومن استعبد بحق إذا أدّى حقّ الله وحقّ مواليه فله أجران و لو أكره على التكلّم بالكفر وقلبه مطمئن بالإيمان لم يضرّه ذلك.
وأما من استعبد قلبه فصار عبدا لغير الله فهذا يضره ذلك ولو كان في الظاهر ملك الناس فالحرية حرية القلب والعبودية عبودية القلب كما أن الغنى غنى النفس.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الغنى عن كثرة العرض وإنما الغنى غنى القلب ). اه.
أيها الصائمون الكرام! وحين يسترسل الإنسان في تناول المسكرات والمخدرات يعبّ منها ما تناله يده حتى تتلف أعصابه وصحته وتسلبه عقله وكرامته أيزعم بعد ذلك أنه حر؟! أيوجد أبشع من هذه العبودية لشراب قاتلوسموم فتاكة؟!
وقل مثل ذلك في التهالك على المال والجاه إن ذلك حين يستولي على قلب الإنسان ونفسه ينقلب إلى عبودية ذليلة وكلّ هوى يتمكّن من النفس حتى تكون له السيطرة على الأعمال والسلوك يفضي بصاحبه إلى عبودية ذليلة مقيتة لا نهاية لقبحها.
ومن أعجب أساليب القرآن تعبيره عن مثل هذه الحالة بقوله: (أفرأيت من اتّخذ إلهه هواه ) (الجاثية: من الآية23). فليست العبودية الذليلة _إذا_ قيدا ولا سجنا فحسب فهذه أيسر أنواع العبودية وأسرعها زوالا.
ولكن العبودية الذليلة عادة سيئة تتحكم وشهوة عارمة تستعلي ولذة محرمة تطاع.
وليست الحرية هي القدرة على الانتقال من بلد إلى بلد آخر فتلك أيسر أنواع الحرية وأقلّها ثمنا ولكن الحرية الحقّة: أن تستطيع السيطرة على أهوائك ونوازع الشر في نفسك والحريّة الحقّة ألا تستعبدك عادة ولا تستذلّك شهوة.
وبهذا المعنى كان المؤمنون _حقا_ هم أهل الحرية الحقّة فعبوديتهم للهتحررهم من كل عبودية وإخلاصهم لله يصرف عنهم كلّ ذلّة وتبعيّة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللهمن أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية).
وقال رحمه اللهوإذا كان العبد مخلصا لله اجتباه ربه فأحيا قلبه واجتذبه إليه فينصرف عنه السوء والفحشاء ويخاف من ضد ذلك بخلاف القلب الذي لم يخلص للهفإن فيه طلبا وإرادة وحبا مطلقا فيهوى كلّ ما يسنح له ويتشبث بما يهواه كالغصن أيّ نسيم مرّ به عطفه وأماله فتارة تجتذبه الصور المحرمة فيبقى أسيرا عبدا لمن لو اتخذه هو عبدا لكان ذلك عيبا ونقصا وذما.
وتارة يجتذبه الشرف والرئاسة فترضيه الكلمة وتغضبه الكلمة ويستعبده من يثني عليه ولو بالباطل ويعادي من يذمه ولو بالحق.
وتارة يستعبده الدرهم والديناروأمثال ذلك من الأمور التي تستعبد القلوب والقلوب تهواها فيتخذ إلهه هواه ويتبعه بغير هدى من الله.
ومن لم يكن خالصا لله عبدا له قد صار قلبه معبّدا لربه وحده لا شريك له بحيث يكون هو أحبّ إليه مما سواه ويكون ذليلا له خاضعا وإلا استعبدته الكائنات واستولت على قلبه الشياطين وصار فيه من السوء والفحشاء ما لا يعلمه إلا الله وهذا أمر ضروريّ لا حيلة فيه). ا_ه.
وهكذا يتبيّن لنا أن المؤمنين الذين يخضعون لأمر الله ونهيه هم أكمل الناس وأعقلهم وأسعدهم وهم في الوقت نفسه أكثر الناس حريّة فخضوعهم لله حرّرهم حتى من أنفسهم.
أيها الصائمون الكرام! بهذا المعنى الدقيق نستقبل رمضان على أنه شهر الحرية وعلى أن الصيام مدرسة لتخريج الأحرار بالمعنى العلمي الصحيح.
في رمضان جوع وعطش وفيه قيد وحرمان ولكنه يمنحنا الصحة ويحررنا من العبودية يحررنا من عبودية الطعاموالشراب وعبودية العادة والحياة المملة.
في رمضان امتناع عن اللذة اختيارا وهذه هي الحرية فحرية الإرادة أن تعمل وفق ما يمليه عليك دينك ووازع عقلك لا ما تمليه عليك عاطفتك وشهوتك فأنت _إذا_ قوي الإرادة ضعيف الهوى تضبط ميولك بإحكام عقلك.
ومن اتّصف بهذا كان جديرا بالنصر في كل معركة يخوضها وما قصة طالوت لما فصل بالجنود عنا ببعيد قال_تعالى_)فلمّا فصل طالوت بالجنود قال إنّ اللّه مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس منّي ومن لم يطعمه فإنّه منّي إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم)(البقرة: من الآية249).
فانظر كيف هزموا عدوهم بعد أن هزموا شهواتهم!!.
أيها الصائمون الكرام! في رمضان عبودية كاملة وهذه هي الحريّة الكاملة فأكثر الناس حريّة أشدهم لله عبودية.
في رمضان امتناع عن كل خلق رذيل وقول ذميم ومقالة ذميمة فما أحلى هذه الحرية فأنت في الخلق الكريم حرّ فلا تهان ولا تنتقص في قدر ولا جاه وأنت في القول الكريم حرّ فلا تضطرّ إلى اعتذار ولا تتعرض لملامة ولا يملأ نفسك ندم.
وأنت في المعاملة الكريمة حرّ فلا تلوكك الألسن ولا تتحدث عن خيانتك المجالس ولا تعلّق بذمتك الشهوات.
أيها الصائم الكريم هذا هو رمضان يعلمنا الحرية بأجمل معانيها في جوعه وعطشه وقيوده وحرمانه أفلست تعشق هذه الحرية التي تنطلق من الجوع والحرمان؟ !.
لا أخالك إلا كذلك وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.