رمضان شهر الصلة (1)
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:
فإن رمضان شهر البر والصلة وشهر التعاطف والمرحمة فالقلوب تلين لذكر الله والنفوس تستجيب لداعي الله فلا ترى من جرّاء ذلك إلا أعمالا زاكيات وقربا من ربّ الأرض والسماوات.
ولعل الحديث ههنا يدور حول صلة الرحم وفضلها والأمور المعينة عليها لعل نفوسنا تنبعث إلى الصلة وإلى مزيد منهارمضان شهر الصلة وتقصر عن القطيعة وتنأى عن أسبابها.
أيها الصائمون الكرام: لقد تظاهرت نصوص الشرع في عظم شأن الصلة وفضلها والتحذير من قطيعتها قال _تبارك وتعالى_واتّقوا اللّه الّذي تساءلون به والأرحام)(النساء: من الآية1) .
وقال_عز وجل_فهل عسيتم إن تولّيتم أن تفسدوا في الأرض وتقطّعوا أرحامكم أولئك الّذين لعنهم اللّه فأصمّهم وأعمى أبصارهم) (محمد: 22-23) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة قاطع) رواه البخاري ومسلم وقال سفيان في روايته: (يعني: قاطع رحم).
وقال صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه) متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال: نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك قالت: بلى: قال فذلك لك) رواه البخاري ومسلم.
وهكذا يتبين لنا عظم شأن الصلة وأنها شعار الإيمان بالله واليوم الآخر وأنها سبب في بسط الرزق وطول العمر وأنها تجلب صلة الله للواصل.
ثم إنها من أعظم أسباب دخول الجنةوهي من أسباب تيسير الحسابوتكفير الذنوب وتعمير الديار ودفع ميتة السوء.
وهي مما اتفقت عليه الشرائع السماوية وأقرته الفطر السوية كما أنها دليل على كرم النفس وسعة الأفق وطيب المنبت وحسن الوفاء.
وصلة الرحم مدعاة لرفعة الواصل وسبب للذكر الجميل وموجبة لشيوع المحبة وعزة المتواصلين.
أيها الصائمون: صلة الأرحام ضدّ القطيعة وهي كناية عن الإحسان للأقربين من ذوي النسب والأصهار.
وتكون بزيارتهموتفقّد أحوالهموالسؤال عنهموالإهداء إليهم والتصدّق على فقيرهم والتلطف مع وجيههم وغنيهم وتوقير كبيرهم ورحمة صغيرهم.
وتكون باستضافتهم وحسن استقبالهم وإعزازهمومشاركتهم في أفراحهم ومواساتهم في أتراحهم.
وتكون الصلة بالدعاء للأرحام وسلامة الصدر لهم والحرص على نصحهم ودعوتهم إلى الخير وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وإصلاح ذات البين إذا فسدت.
وهذه الصلة تستمر إذا كانت الرحم صالحة مستقيمة أو مستورة.
أما إذا كانت الرحم كافرة أو فاسقة فتكون بالعظة والتذكير وبذل الجهد في ذلك.
فإذا أعيته الحيلة في هدايتهم كأن يرى منهم عنادا أو استكبارا أو أن يخاف على نفسه أن يتردى معهم ويهوي في حضيضهم _فلينأ عنهم وليهجرهم الهجر الجميل الذي لا أذى فيه بوجه من الوجوه وليكثر من الدعاء لهم بالهداية.
وإن صادف منهم غرة أو سنحت له لدعوتهم فرصة فليقدم وليعد الكرّة بعد الكرة.
أيها الصائمون: ومع عظم شأن الصلة إلا أن كثيرا من الناس مضيعون لهذا الحق مفرّطون فيه فمن الناس من لا يعرف قرابته بصلة لا بالمال ولا بالجاه ولا بالخلق تمضي الشهور وربما الأعوام وهو ما قام بزيارتهم ولا تودد إليهم بصلة أو هدية ولا دفع عنهم حاجة أو ضرورة أو أذية بل ربما أساء إليهم وأغلظ في القول لهم.
ومن الناس من لا يشارك أقاربه في أفراحهم ولا يواسيهم في أتراحهم ولا يتصدّق على فقرائهم بل تجده يقدم عليهم الأباعد في الصّلات والصدقات.
ومن الناس من يصل أقاربه إن وصلوه ويقطعهم إن قطعوه وهذا _في الحقيقة_ ليس بواصل وإنما هو مكافئ للمعروف بمثله وهو حاصل للقريب وغيره والواصل _حقيقة_ هو الذي يتقي الله في أقاربه فيصلهم لله سواء وصلوه أو قطعوه.
ومن مظاهر القطيعة: أن تجد بعض الناس _ممن آتاه الله علما ودعوة_ يحرص على دعوة الأبعدين ويغفل أو يتغافل عن دعوة الأقربين وهذا لا ينبغي فالأقربون أولى بالمعروف قال الله _عز وجل_وأنذر عشيرتك الأقربين) (الشعراء:214).
وإذا أمعنا النظر في أسباب قطيعة الأرحام وجدنا أنها تحدث لأسباب عديدة تحمل على القطيعة.
فمن تلك الأسباب: الجهل بعواقب القطيعة والجهل بفضائل الصلة.
ومنها ضعف التقوىوالكبرفبعض الناس إذا نال منصبا رفيعاأو حاز مكانة عالية أو كان تاجراأو مشهورا تكبر على أقاربه وأنف من زيارتهم والتودد إليهم.
ومن أسباب القطيعة: الانقطاع الطويل الذي يقود إلى الوحشة واعتياد القطيعة.
ومنها: العتاب الشديد فبعض الناس إذا زاره أحد من أقاربه أمطر عليه وابلا من التقريع والعتاب على تقصيره في حقه وإبطائه في المجيء إليه ومن هنا تحصل النفرة من ذلك الشخص وتوجد الهيبة من المجيء إليه.
ومن أسباب القطيعة: التكلف الزائد فهناك من الناس من إذا زاره أقاربه تكلّف لهم أكثر من اللازم وخسر الأموال الطائلة وقد يكون _مع ذلك_ قليل ذات اليد.
ومن هنا تجد أن أقاربه يقصرون عن المجيء إليه خوفا من إيقاعه في الحرج.
وفي مقابل ذلك تجد من إذا زاره أقاربه لم يهتمّ بهم ولم يصغ لحديثهم وتراه لا يفرح بمقدمهم ولا يستقبلهم إلا بكل تثاقل وبرود مما يقلل رغبتهم في زيارته.
ومن الأسباب الحاملة على القطيعة: الشحّ والبخل فمن الناس من إذا رزقه الله مالا أو جاها بعد من أقاربه حتى لا يرهقوه بطلباتهم المتنوعة.
و من أعظم أسباب القطيعة: تأخير قسمة الميراث فقد يكون بين الأقارب ميراث لم يقسم إما تكاسلا منهم أو قلة وفاق فيما بينهم وكلما تأخر قسم الميراث شاعت العداوة وكثرت المشكلات وزاد سوء الظن وحلّت القطيعة.
ومن أسباب القطيعة: الشركة بين الأقاربفكثيرا ما يشترك الإخوة أو غيرهم من الأقارب في مشروع أو شركة ما دون أن يتفقوا على أسس ثابتة ودون أن تقوم الشركة على الوضوح والصراحةبل تقوم على المجاملة والحياء وإحسان الظن.
فإذا زاد الإنتاج واتّسعت دائرة العمل دبّ الخلاف وساد البغي ونزغ الشيطان وحدث سوء الظن خصوصا إذا كانوا من قليلي التقوى والإيثار أو كان بعضهم مستبدا برأيه أو كان أحد الأطراف أكثر جدية من صاحبه.
ومن هنا تسوء العلاقة وتحل الفرقة وربما وصلت بهم الحال إلى الخصومات في المحاكم فيصبحون سبّة لغيرهم: (وإنّ كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات وقليل ما هم)(صّ: من الآية24).
ومن أسباب القطيعة: الاشتغال بالدنيا والطلاق بين الأقارب إذا لم يكن بإحسان وبعد المسافة والتكاسل عن الزيارة.
وقد يكون التقارب في المساكن بين الأقارب مسببا للقطيعة بسبب ما يكون من التزاحم على الحقوق وبسبب ما يحدث بين الأولاد من مشكلات قد تنتقل إلى الوالدين.
ومن الأسباب الحاملة على القطيعة: قلة التحمّل وقلة الصبر على الأقارب ونسيانهم في الولائم والمناسبات فقد يفسّر هذا النسيان بأنه تجاهل واحتقار فيقود ذلك الظن إلى الصرم والهجر.
أيها الصائمون: هذه بعض الأسباب التي تؤدي إلى قطيعة الأرحام أما الحديث عن الأمور المعينة على الصلة فسيكون غدا _إن شاء الله_ والله المستعان وعليه التكلان وصلى الله وسلم على نبينا محمد.