كان الاعتقاد سابقاً ان الدكتور محمد البرادعي حقق في بداية حملته للترشح لرئاسة الجمهورية في مصر العربية امرين اساسيين فقط هما:
1- تجميع
كل القوى المعارضة للرئيس حسني مبارك، وأي مشروع يحمله، او يعتقد الخصوم
انه يريده.. كمثل توريث نجله أمين السياسات في الحزب الوطني الديموقراطي
جمال مبارك السلطة في حياته او من بعده.
2- شرذمة
القوى السياسية خاصة الحزبية منها، بين مؤيد لحملته الرئاسية، ومعارض
لها، وبين منتظر لاعلان موقفه بالترشح من عدمه، ومنتظر موضوعي لبرنامجه
السياسي قبل ابداء وجهة نظره.
بين التجميع
والشرذمة، بدا ان كل قوى مصر خارج النظام عاجزة خلال طول مدة معارضتها
للرئيس مبارك عن ايجاد شخص يجابه الرئيس او ينازله، خاصة بعد تجربة تعدد
المرشحين الرئاسيين ضده في دورة 2004 التي كشفت
في كثافة المرشحين ضد الرئيس، كثافة العداء بينهم، والعجز عن ايجاد قاسم
مشترك واحد يسمح لهم بالبحث عن مرشح واحد ينافسون به مبارك.
والمفارقة
المضحكة هنا، ان من ظنه البعض الرجل الموعود الذي ستتوحد كل القوى
المعارضة للرئيس مبارك حوله، يتحول الى الرجل الذي يحدث قسمة وشرذمة في
الحياة الحزبية المصرية، خاصة المعارضة للرئيس مبارك لم تحدث لها في
تاريخها، حتى ان حزباً عريقاً في مصر كحزب الوفد الذي امتاز منذ عودته الى
الحياة السياسية، بمرونة حركته التي سمحت باستمرار وحدته الحزبية، مهدد
بالانقسام بل وبالانشطار بسبب حملة البرادعي نفسه.
غير ان
اعتقادنا بأن البرادعي حقق هذين الانجازين المهمين فقط، خاب مع استعارة
مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية سابقاً شعار التغيير الاميركي
ليدلل على عمق مراهنته على الولايات المتحدة الاميركية لحمله الى سدة
الرئاسة المصرية.
والا،
فماذا تعني دعوة الدكتور محمد البرادعي للولايات المتحدة، ان لا تقف مكتوفة الايدي امام ما تتعرض له الديموقراطية في مصر؟
وماذا يعني ان تعتبر جامعة هارفرد الدكتور البرادعي اعظم اساتذة الجيل الطالع؟
وماذا يعني
ان تعتمد الجهات الاعلامية والسياسية الداعمة للبرادعي، كل ما يرد في
الاعلام الاميركي عن مصر رسمياً وشعبياً وسياسياً وحزبياً كإشارات وكدلائل
على صحة نظرها في هذا الدعم؟
وماذا يعني ان يختار البرادعي اميركا كأول تحرك خارجي منذ اعلن نيته الترشح لانتخابات الرئاسة المصرية (اذا توافرت شروطه المسكوبية)؟
وماذا يعني ان يحيط البرادعي نفسه في اميركا بمصريين يراهنون على الضغط الاميركي على بلدهم لتحقيق شروطهم السياسية؟
وقبل ذلك ماذا تعني مراهنة الاخوان المسلمين، على خطة الرئيس السابق جورج بوش لنشر الديموقراطية في مصر (والشرق الاوسط) واندفاعهم للحصول على 80 مقعداً في مجلس الشعب المصري؟
وماذا يعني
ان تدعم جماعة الاخوان نفسها المرشح الرئاسي السابق ايمن نور المعتمد
ايضاً على خطة بوش نفسه ليحصل على نحو 800 الف صوت؟
وان يلجأ
رئيس جمعية ابن خلدون الذي اختار التطبيع مع اسرائيل وحامل الجنسية
الاميركية د. سعد الدين ابراهيم اميركا لمخاطبة اميركا نفسها لحمايته من
موقف الحكومة المصرية منه؟ وهو الآن من اشد انصار البرادعي ليكون رئيساً
لمصر؟
بل وماذا
يعني اعتراض عدد من الجمعيات الحقوقية ومنظمات المجتمع المدني التي تحصي
انفاس السلطات المصرية – وتكدس بياناتها في كل مناسبة، على قرار الحكومة
الاميركية في عهد الرئيس باراك اوباما تخفيض المساعدات المادية لهذه
الجمعيات (وغيرها) الى النصف.. ومعظمها مؤيد للبرادعي وبقوة!
عودة الى البرادعي،
وماذا تعني
حملة البرادعي ضد ثورة يوليو/تموز وانجازاتها الاجتماعية والاقتصادية في
مسار المواجهة السياسية لجمال عبدالناصر مع قوى الرأسمالية والاقطاع التي
تحرص الولايات المتحدة على الدفاع عنها واعتبارها قوى الحرية التي وقفت في
وجه المشروع الناصري للنهضة والتنمية؟
وماذا تعني دعوة البرادعي لالغاء نسبة الـ 50%
للعمال والفلاحين في مجالس التمثيل الشعبي السياسي والمحلي ورفض المحافظة
على مكاسب العمال والفلاحين، في خضم الدعوة العلنية الاميركية بل
والفلسفة الرأسمالية الاميركية ((دعه يعمل دعه يمر))،
في حق قطار الرأسمالية ان يجرف امامه كل محاولة للعدالة الاجتماعية وحق
بقية خلق الله في كل مجتمع عمالاً كانوا او فلاحين في الحياة ايضاً؟
وماذا يعني
ان الاعلام والقوى التي تؤيد ايران في كل امر حتى لو كان ضد موقف بلده
مصر، تقف مع البرادعي في معركته للوصول الى الرئاسة المصرية؟
وماذا يعني
ان القوى والاعلام الذي يدافع عن حركة حماس في كل امر، خاصة اذا كان يمس
امن مصر، والموقف الرسمي المصري يتبنى حملة البرادعي السياسية؟
وماذا يعني انضمام جماعة الاخوان المسلمين الى حملة البرادعي بداعي التغيير؟
وماذا يعني
شعار التغيير الذي رفعه البرادعي شعاراً لحملته تماماً كما فعل باراك
اوباما اثناء حملته الرئاسية للوصول الى البيت الابيض في نوفمبر/ت2 2008؟
الاسقاط
السياسي الاهم ضد الحكومة المصرية الحالية انها الاقرب الى الولايات
المتحدة الاميركية، فهل يعني شعار التغيير الذي يرفعه البرادعي، انه سيكون
أبعد عن الولايات المتحدة الاميركية؟
المسار
السياسي للبرادعي منذ اعلن نيته في الترشح للرئاسة يقول عكس ذلك.. بل يبدو
هو ومعظم السائرين في حملته انهم يراهنون على دعم الولايات المتحدة لهم..
بل هم وصلوا في استجداء الدعم الاميركي حد تحريض واشنطن على سلطات
بلدهم.. وفي مقلب آخر يهاجمون الحكومة المصرية بسبب ((اميركيتها))!!
المسار
السياسي للبرادعي، يتوجه نحو استرضاء وطمأنه الرأسمالية المصرية (وفي
حقيقتها مجموعة توكيلات اجنبية وصناعات خفيفة معظمها استهلاكي..) وهي
الرأسمالية نفسها التي انتجها النظام الحالي، وهي من اركان توجهه
الاجتماعي والاقتصادي.
وأشد الناس
في مصر حماساً للبرادعي هم من يملكون وسائل اعلام يصرفون عليها من اموال
حصدوها من ارباح توكيلاتهم الاجنبية، ومصادرها او فلسفتها الاقتصادية
الاميركية البحتة.. ومقالات صحفهم ملأى بكتابات ضد التعليم المجاني او
السخرية منه، وضد نسبة الـ 50% للعمال والفلاحين
او هزءاً بها، وضد تأميم قناة السويس، وبناء السد العالي والاصلاح
الزراعي، بل ان احدى هذه المطبوعات باتت متخصصة بأخبار احمد فؤاد ابن
الملك الراحل الاخير من اسرة محمد علي باشا قبل ثورة 23 يوليو/تموز 1952..
نكاية بثورة يوليو/تموز وقائدها جمال عبدالناصر نصير العمال والفلاحين
والفقراء، الذي يكرهه الرأسماليون القدامى والجدد والاقطاعيون القدامى
والجدد.. وأصحاب التوكيلات الاجنبية القدامى.. والجدد.
الى اين يقود
المسار السياسي للبرادعي في علاقات مصر مستقبلاً؟ وهل يظن البرادعي ان
تأييد اميركا له وهو يلهث خلفه سيمر دون ثمن؟ وما هو الثمن الذي تريده
اميركا من البرادعي؟
إذا كان المسار الاجتماعي والاقتصادي للبرادعي لا يختلف عن المسار الرسمي اليوم (في المضمون وليس في الشكل..) فهل سيختلف معه في إطاره السياسي وخاصة في مسألة الصراع العربي – الصهيوني؟
من يلهث خلف
اميركا لإيصاله الى السلطة.. لا يمكن ان يخالفها في مسألة هذا الصراع؟ فهل
يتصور البرادعي ان تضحي اميركا بموقفها الاستراتيجي من اسرائيل بإعتبارها
الولاية رقم 51 للولايات المتحدة.. من اجل عينيه خلف نظارتيه؟
يتمسك النظام المصري بموقفه الراسخ من اتفاقية ((كامب ديفيد)) الموقعة بين مصر والعدو الصهيوني في 26/3/1979.. وهذا
مثلما يحقق للبلاد أمناً واستقراراً وتسوية داخلية بين مختلف القوى
السياسية المعارضة لاسرائيل، والداعية للصلح معها، فإنها احدى اساسيات
العلاقة المصرية – الاميركية وثوابتها منذ اكثر من 30 سنة. فهل يعيد
البرادعي توكيد تأييده للاتفاقية مع اسرائيل مقابل الحصول على التأييد
الاميركي له؟
طيب،
إذا كان البرادعي ((اميركياً)) في موقفه الاقتصادي والاجتماعي، وإذا كان البرادعي ((اميركياً)) في موقفه من الصراع العربي – الصهيوني، وخاصة في القضية الفلسطينية؟
فما الذي يجعل الناس تصدق ان البرادعي هو أيضاً صاحب شعار تغيير؟.
وأين هو التغيير؟
هل هو في
تغيير اسم رئيس الجمهورية، ليبقى النهج الاقتصادي والاجتماعي هو نفسه؟
وليبقى موقف مصر هو نفسه من الصراع العربي – الصهيوني والعلاقة مع اسرائيل
وفي العلاقة الخاصة نفسها مع الولايات المتحدة الاميركية؟
وأرجو ان
نلاحظ هنا ان الرئيس حسني مبارك لم يأت الى السلطة في مصر عام 1981 بقرار
اميركي، بينما يلهث البرادعي خلف أميركا لتأتي به رئيساً.
وأرجو ان
نلاحظ ان التغييرات الجذرية التي حصلت في القرارات الاقتصادية والاجتماعية
للحكومات المصرية منذ مجيء الرئيس مبارك الى السلطة مطلع الثمانينيات من
القرن الماضي، لم تمنع تمسك هذه الحكومات بالتعليم المجاني (رغم الملاحظات
القاسية التي يمكن كتابتها حول مضامينه الحالية التي تؤكد ثلاثية التعليم
الطبقية المتفاوتة (تعليم رسمي مجاني يفضحه تعليم خصوصي للقادرين
الاغنياء.. ويكشفه حجم الدروس الخصوصية التي تستنـزف قدرات ما تبقى من
الطبقة المتوسطة المصرية).
ولم تمنع هذه
الحكومات من التمسك بنسبة الـ 50% للعمال والفلاحين في مجالس التمثيل
السياسي المختلفة.. رغم التغيير الجذري الذي أصاب الفئات المختلفة، حتى لم
يبق من مضامين انتماءاتها الاجتماعية – الاقتصادية التقليدية الا الإسم
فقط يلتحف به اغنياء حقيقيون للترشح باسم العمال والفلاحين.
ولم تمنع هذه
الحكومات من التمسك الثقافي والاعلامي، بل والاعتـزاز بانجازات تمت في
عهد الثورة كالاصلاح الزراعي، رغم التغيرات التي حصلت في الريف وهجرته
وصعود الاستصلاح الخاص للزراعة والارض، وكتأميم قناة السويس التي توفر
لمصر سنوياً نحو 4.5 مليار دولار اميركي، وكبناء السد العالي الذي يعطي
الآن اكثر من 15% من الطاقة الكهربائية لمصر، وقد حمى مصر من جدب طال
افريقيا لعدة سنوات، فضلاً عن انقاذه مصر من فيضان كان يتكرر كل عدة
سنوات.
أين هو
التغيير إذن.. إذا كان مشروع البرادعي لا يختلف قيد أنملة عن المسار
السياسي والاجتماعي والاقتصادي للرئيس حسني مبارك، وإذا كان كل هم
البرادعي والداعمين له بقوة ان يظل تكدس أموالهم متوافراً كما هو اليوم،
وإذا كان العداء لنسبة الـ 50% للعمال والفلاحين يحمل فكراً وثقافة معادية
للفقراء في مصر؟
هذا هو
البرادعي.. هذه هي خلفيته السياسية.. هذا هو إبن الوفد والوفدي القديم عدو
ثورة جمال عبدالناصر، عدو الطبقة العاملة والفلاحين والفقراء صديق اميركا
اللاهث خلفها لإيصاله للرئاسة.
أصدقاء
البرادعي من أنصار توجهاته السياسية والاجتماعية معروفون.. ومفهوم تأييدهم
له، حتى وهم يظهرون انتهازية وأخلاقية سياسية فاقعة في الرهان على ما
يعتقدون انه مدعوم من أميركا بأكثر مما هو حال الحكومة المصرية الحالية.
أما ما هو
غير المفهوم فهو لهاث اليسار وبعض الناصريين خلف البرادعي وهو ضد كل ما
يدعون اليه من حقوق العمال والفلاحين والفقراء، وكل انجازات الثورة التي
يعاديها محمد البرادعي، وضد تمسك الناصريين خصوصاً بشعار جمال عبدالناصر،
((إن ما أُخذ بالقوة لا يمكن ان يسترد بغير القوة)). والموقف القومي
الرافض لأي علاقة مع اسرائيل، والمؤيد للمقاومة تحت اي اعتبار.
المفارقة المضحكة مرة أخرى وليست أخيرة.. ان اليساريين (والاخوان)
الذين كثيراً ما كتبوا حقيقة او تهويلاً او كذباً عن لاديموقراطية الثورة
سياسياً معهم، رغم تمسك بعض اليسار بالإنجازات الاجتماعية يلتقون مع
الناصريين الذين يرفضون اي اسقاط ضد جمال عبدالناصر في دعم البرادعي وهو
الذي كانت احدى أبرز انجازاته حتى الآن أنه شرذم كل القوى السياسية
المصرية الساعية للتغيير قبله ومنذ اكثر من 30 سنة