تنفس الصبح، و شرعت الحياة تدب من جديد في الشارع الطويل، العصافير تشدو
لتعانق مسامع من استيقظ في ذلك الصباح الهادئ، أشعة النور تخترق سحب الضباب،
لتقبل قطرات الندى التي باتت تسامر الأرض طيلة الليل، الأبواب المغلقة تنفتح الواحدة بعد أخرى،
الخطوات الهادئة تنساب كموسيقى على الطوار الخامل، و مواكب التلاميذ بزيهم الموحد الجميل
تجتاح الشارع فتبدو كموجة زرقاء تمتد لتعانق الشاطئ، الابتسامات الصافية تتطاير هنا و هناك،
و الدعابات الخافتة كالفراشات تنتقل من مكان لآخر، من بين سيارتين و قفتا كتوأمين،
أطلت عينان حزينتان، عينا فتى في السابعة من عمره،شرع يرقب الجموع المندفعة نحو باب
المدرسة، و أحس بقلبه ينقبض، و نفسه يضيق، نظر الى محفظته البالية،ثم أعاد البصر باتجاه
التلاميذ الذي يبدون سعداء، يداعب بعضهم بعضا،درج بصره متنقلا بين تفاصيل ما
يحدث أمام عينيه من حركة بدت متناسقة كمعزوفة ملحن عبقري،قبل ان يتوقف نظره عند
الباب الكبير للمؤسسة،ظل مركزا بصره عليه حتى أقفله الحارس بصوت تردد له صدى
مؤلم في نفسه، آلمه أن يرى نفسه منبوذا، دار في ذهنه شريط الأمس سريعا، لو يستطيع ان يعيد
الزمن لأصلح خطأه، أو لما امتدت يده لاقترافه أصلا، اللعنة، يا لني من أحمق، كيف سولت
لي نفسي أن أمد يدي إلى حقيبة المعلمة؟ لكن منظر الورقة الزرقاء و هي تندس في الحقيبة كان مغريا،
مغريا إلى حد لا يوصف، حين رأى تلك الورقة رأى معها سروال"الجينز" الذي صار له
أكثر من شهر و هو يتوسل لأمه كي تشتريه له،بدل سرواله الممزق، رأى فيها تذكرة لمباراة فريقه
يوم الأحد، و لعبة لأخته التي لا تكف عن البكاء، راى فيها دجاجة تزين مائدتهم التي صارت
رائحة السردين عطرها الدائم، آه منها تلك الورقة اللعينة، لم يتذكر بالضبط كيف امتدت يده
متسللة بحثا عن الورقة، ما يذكره جيدا كاليقظة هو تلك الصرخة التي اصدرتها المعلمة و هي
تقبض على يده الصغيرة، و تصرخ منادية الحارس، ذلك الجلف الذي انتزع حزام سرواله و شرع
يلهب جسده الصغير بقسوة لا حدود لها،كان الضرب مبرحا، و هو ما انفك يقبل يد المعلمة،
حاميا رأسه من لسع الضربات الموجعة، عل قلبها يرق فتوقف ذلك المارد الذي ركبه شيطان
جعله يستلذ بضربه،لم تسعفه غير قدميه الصغيرتين بالهرب فانطلق و كأنما العفاريت في أثره،
قضى الليل كله متسكعا بين الدروب، لم يستطع الذهاب للبيت، أكيد ان والديه علما بالأمر،
يا لحظه التعيس،فضيحة بالمدرسة، و القادم أسوأ بالبيت،بات في الحديقة بعد ان غافل حارسها
الذي طرده و عاد اليها من جديد، كان جائعا، و آلام ضرب الأمس ما تزال عالقة بنفسه،
أحس بالقهر و هو يرمق الباب الكبير بنظرات حانقة، بداخله لعن المعلمة بحرارة، لو لم تظهر
تلك الورقة اللعينة لما وقع كل هذا، فكر في الذهاب الى البيت، لكن والده لا يتفاهم، يضرب
قبل ان يسأل عما وقع، مرت من أمامه امرأة تجر خلفها طفلا و هي تحاول إقناعه بالتهام الفطيرة
التي بين يديه، احس بانقباض في بطنه،فهو لم يذق طعم الزاد منذ أول أمس، فكرة العودة
الى البيت تلح عليه بقوة، سار مقتربا من بيته، هل يدخل؟ هل يغامر و يفعلها؟ و ماذا في ذلك؟
إذا أراد والده ضربه فسيصرخ بأعلى قوة حتى يتدخل الجيران،و حينها يقبل يد والده و يتمسح
بأمه معلنا توبته،و هكذا ينتهي كل شيء.. تحسس الكي القديم على يده، تذكر صراخه
و القضيب الملتهب تمتد به يد الأب لترسم وشما بشعا على الجلد، ارتجف فزعا، ألقى نظرة
على البيت، تذكر الورقة الزرقاء و المعلمة..تذكر حزام الحارس..و الضرب و الفقر..
تذكر الكي و القضيب الحارق و هو يشوي جلده..تذكر الدموع و الألم..تحركت قدماه
تركضان باتجاه المجهول..كل الأبواب أقفلت،
وحده طريق التشرد و الضياع يفتح له ذراعيه بلطف.