بينما كَانت أمه الحنون في المطبخ، منهمكة في إعداد أصناف الحلوى إستعداداً للعِيد المقبل بمساعدة أخواته، كَان هو يجلس بكسله المعتاد كالحَمل الوديع بالمقربة منها، يُراقب من مكانه الأجواء في صمت مهول، و كل تفكيره منصب في الوقتْ الذي سيستغرقه طهي كل هذه الحلويات، و حين كان يعييه الإنتظار، كَان يشرد بباله و يتخيل في ذهنه عالماً خاصاً به من الحلويات، جِباله من السكاكر و أمواجه من قطع الشوكلاطة المنصهرة و سماءه لا تمطر إلا البوظة و المثلجات، و بين الفينة و الأخرى كانت أصوات الضوضاء تنتزعه من عالمه ليكتفي فرحاً بفتات الحلويات، أو بِلعق آثار الشوكلاطة من على الأواني.
هكَذا ظل ساكناً بينهن على غير عادته طيلة اليوم، و هو جالس على أحرَّ من الجمر، حتى أدرك لأول مرة قِيمة الوقت بعد أن أضناه الإِنتظار، و مع غروب الشمس حلت سَاعة الصفر معلنة عن تحقق كل أمانيه في هذه الحيَاة، فلم يعد أمامه سوى أن يقطف ثمار صبره على طبقٍ من ذهب، فجأة إرتسمت على محياه إبتسَامة عريضة، واكبتها نظرة إستعطافية صَوب والدته الطيبة مع لمسةٍ من البراءة، نظرت إليه بحنان جَارف، فتلألأت عدسات عينه بفرحة قرب تحقق البشرى، و ما هي إلا مسألة وقت حتى وجد أمامه طبقاً يضم من كل صنف قطعةً واحدة، ثم قامت الأم و تركَت مهمة جمع الحلويات و تخزينها لأخواته، أخذ الطبق بين يديه و أجهز على كل القِطع في ثانية، ثم نظر صوب أخواته و هو يترقب المزيد، و لكن للأسف مُني بخيبة كبيرة على إثر إستهزائهن منه و من شراهته، فقام من مكَانه بدون أن ينبس بكلمة بعد يأس من كسب تعاطفهن، و خرج و معه كرة القدم ليصبَّ عليها جام غضبه.
بعد عدة سَاعات عاد إلى منزله و علامات الإرهاق بادية، ثم تسَلل خفية إلى المطبخ فوجد الأمور كما توقعها، فلقد أخفيت كل الأدلة التي تقود إلى مكان الحلوى، لعلمِهن المسبق بخبرته الواسعة في الفِراسة و إقتفاء الأثر، لم يطل التفكير كثيراً و بدأ رحلة بحثه عن كنزه المفقود، مرّ على المخابئ التقليدية و حتى الغير المتوقعة و لم يجد شيئاً، فلقد كن هذه المرة أكثر حرصاً من المرة السابقة، فتش كثيراً حتى نال منه التوتر و التذمر، و قي الأخير لم تبقى أمامه سِوى الخزانة الخشبية الكَبيرة، توجه إليها و حاول بكل سَذاجة فتحها فوجد بابهاً مغلقاً بالمفتاح، بعد ذلك كان يحضرُ كل مفتاح يقع بين يديه و يجرِّبه و لكن بدون جدوى، و بعد أن فشلت كل محاولاته جلس القُرفصاء على الأرض و هو يرمق الخزانة بنظرات الإستياء، و فجأة هب من مكانه مبتسماً، أحضر سكيناً ثم إستلقى على ظهره و أدخل يده تحت الخزانة، تحسس بأنامله أضعف نقطة لا تحتوي على مسَامير كثيرة، ثم أخذ يغرز سكينه بين لوْحَي الخزانة إلى أن فتحت فتحة تسع إدخال يده الصغيرة، و بدون تردد أدخلها بشكل عشوائي، ثم أخذ يغرف من كل أصناف الحلوى و يلتهمها بِشراهة.
كانت هذا هي هِوايته الجديدة التي أصبحت تملأ عليه أوقات فراغه، فطِيلة الأيام الثلاثة التي سبقت يوم العيد، كان يعود للمنزل مُباشرة من المدرسة، ليلقي بحقيبته المدرسية عند عتبة البَاب، ثم يبدأ في خوض مغامراته اليومية في رحلة بحثه عن كَنزه المفقود، من دون أن ينتبه له أي فرد من أفراد أسرته، و مِن دون أن يقيم هو إعتباراً للعواقب الوخيمة التي كان تنتظره، في كل مرة كان يكرر فِيها فعلته هاته.
ثم جائت صبِيحة يوم العيد، يوم البهجة و السرور، المُنتظر من قبل كل باقي أفراد الأسرة بفارغ الصبر، و بينما كَان هو لايزال يتثائب بعد إستيقاظه من النوم متأخراً، و بالكاد يفرك عينيه الخاملتين من رواسِب النوم العميق، ليتبيَّن أول معالم لبصِيص النور، حتى رأى أخواته الكَريمات واقفات حول سَريره، و هنَّ مشمرات عن الأذرع و الشرر يتطاير من أعينهن، فلقد ذهبت كل مجهوداتهن سُدى، إبتسم في وجههن و قبل أن يفكر في مُباركة العيد لهن...
طبعاً لا داعي للإحراج، و لا داعِي لأن أقول أنهم قد أوسعوه ضرباً و هلم جراً...
و الحمد لله أن والدته الطيبة قد تدخلت في اللحظة الأخيرة.